بلد نيوز

"قريتي بين دفء الذكريات ووجع التحولات" - بلد نيوز

 

 

كان الشوق يشتعل في صدري كلما اقتربت الإجازة الصيفية، وكأن قلبي على موعد مع الفرح الحقيقي. ما إن تنتهي آخر أيام المدرسة حتى أجد نفسي مشدودا كليا نحو قريتي الجميلة، تلك البقعة التي تحتضنني ببساطة ناسها، وبهاء طبيعتها، وعبق الذكريات الذي لا ينفك يفوح من كل زاوية فيها.

 

كم كنت أشعر بالسعادة الغامرة وأنا أمد نظري في تلك الأرجاء الخلابة! فلايرتد حسيرا... جبال شامخة تحرس المكان، وأودية تنساب فيها المياه رقراقة كأنها أنشودة أبدية للحياة، وخضرة تكسو الأرض برداء بهيج كأنها جزء من الجنة. في الصباح الباكر، كنا نذهب إلى أرضنا الزراعية، حيث الفلاحون يتسابقون إلى العمل وكأنهم في صلاةٍ جماعية يملؤها الرجاء واليقين. أصوات الحراثات، وخرير الماء، وغناء العصافير، وأحاديث المزارعين، كلها كانت تتناغم لتصنع سيمفونية لا تشبه إلا الحياة في أصدق صورها.

 

كانت الأرض الطيبة تعطينا بسخاء، وتمدنا بثمار تكفي لعام كامل، مكافأة من الله لسمر الجباه وعرق الأيادي العاملة. وكنا، نحن الأطفال، نجد في تلك الأجواء متعة لا تضاهى، نصطاد الطيور، ونتتبع الأرانب البرية حتى نظفر بها، ثم نشويها على الجمر، فتغدو وجبة تفوح منها رائحة الانتصار، أكثر من كونها طعاما.

 

وعندما يحل المساء، نعود إلى بيوتنا، لنجد أمهاتنا قد أشعلن "الميافي" – أفران الطين التي تطهى فيها أجمل أرغفة الخبز، دون قطرة زيت. يرافق الخبز لبن الغنم الطازج، و"الحقين" من الشكوة، والماء البارد من قرب الجلد. نتسامر ليلاً، نتأمل القمر، نعد النجوم، نغزل الأحلام، ونحلم بمستقبل لا تلوثه صخب المدن ولا تخنقه جدرانها الإسمنتية.

 

تغيرت تبدلت الأحوال. لم تعد القرية كما كانت. اجتاحها القات، وسرقها السهر، وضيع رونقها الحسد وأجدبت الأرض التي كانت تنبض بالعطاء. هجرتها القلوب قبل الأقدام، بحثا عن حياة موعودة في المدن، فلم يبق للقرية روحها، ولا حافظت المدينة على وعدها.

 

أصبحت القرية ذكرى، والذكريات أوطان لا تغادرنا. بقيت صور الطفولة مطبوعة في القلب، تشهد على زمن كان فيه للحياة طعم مختلف. طعم البراءة، والطبيعة، والحب الحقيقي. ومهما تغيرت الدنيا، يبقى الحنين إلى تلك الأيام يسكننا كأنها لم تمض أبداً.

 

أ.د مهدي دبان

أخبار متعلقة :