نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
عندما تنكشف أوهام المجتمع الاستهلاكي - بلد نيوز, اليوم الاثنين 5 مايو 2025 06:42 صباحاً
يرى علماء النفس الاجتماعي أن جذور هذا السلوك الاستهلاكي المفرط تعود إلى رغبة متأصلة في النفس البشرية للمقارنة الاجتماعية وإثبات المكانة، نحن، ومنذ فجر التاريخ، نسعى لاقتناء وعرض الممتلكات المادية التي ترمز إلى الثروة والمكانة والقوة. لكن ما يثير القلق حقا هو كيف تحولت هذه الرغبة في عصرنا الحالي إلى ما يشبه مرضا اجتماعيا مستفحلا، يدفعنا إلى إنفاق مبالغ طائلة على منتجات لا تختلف جوهريا عن نظيراتها الأقل سعرا.
ولعل اللافت في هذا السياق الدور المحوري الذي تلعبه الشركات العالمية الكبرى في تغذية هذا الوهم الجماعي. فمن خلال حملات تسويقية مدروسة بعناية، تنجح هذه الشركات في خلق ارتباط وهمي بين المنتجات الفاخرة والنجاح والتميز الاجتماعي. هذا يطرح تساؤلا ملحا: هل نحن فعلا بحاجة إلى كل هذه المنتجات، أم أننا ضحايا لعبة تسويقية متقنة؟
أضف إلى ذلك استراتيجية هذه الشركات في استخدام المشاهير والنجوم كواجهة إعلانية لمنتجاتها، وخلق حالة من الندرة المصطنعة، وإيهام المستهلكين بأن هذه المنتجات فريدة ومميزة، في حين أنها تُنتج بكميات كبيرة وبتكاليف زهيدة في مصانع حول العالم.
تكشف الدراسات الاقتصادية حقيقة مذهلة، هامش الربح في صناعة المنتجات الفاخرة يتجاوز في كثير من الأحيان 1000%! هذا ليس مجرد رقم، بل هو تفسير للثروات الهائلة التي تجنيها الشركات العالمية من وراء بيع منتجات عادية بأسعار خيالية. وعندما نتمعن في الأمر، نجد أننا ندفع ثمن الإعلانات والتسويق والعلامة التجارية أكثر مما ندفع مقابل المنتج نفسه.
المثير للدهشة أن الصدمة الكبرى جاءت من حيث لا نتوقع، من الصين، التي كشفت مؤخرا عن حقيقة مذهلة تشبه إماطة اللثام عن خدعة كبرى: أن ما نرتديه ونحمله من منتجات فاخرة لا يكلف في الواقع سوى دولارات معدودة.
انتشرت على منصات التواصل الاجتماعي مقاطع فيديو لمصنعين صينيين يكشفون بالأرقام والوقائع التكلفة الحقيقية لإنتاج السلع الفاخرة التي تباع بآلاف الدولارات في الأسواق العالمية.
على سبيل المثال لا الحصر، حقيبة «بيركين» من ماركة «هيرميس» التي يتجاوز سعرها 38 ألف دولار، لا تتعدى تكلفة إنتاجها 1450 دولارا فقط، وفقا لما كشفه أحد المصنعين الصينيين. بعبارة أخرى، أكثر من 90% من سعر الحقيبة ندفعه مقابل الشعار المخيط على المنتج فقط! ولا تقتصر هذه الممارسات على صناعة الحقائب الفاخرة، بل تمتد كخيوط العنكبوت لتشمل الملابس والأحذية والإكسسوارات وحتى مستحضرات التجميل.
جوهر المسألة هنا أننا في المجتمعات الاستهلاكية لا نشتري المنتج لقيمته الوظيفية أو جودته الحقيقية، بل نشتري الرمز الاجتماعي والمكانة المرتبطة به.
هذا ما يفسر استعداد البعض منا لدفع آلاف الدولارات مقابل قبعة بسيطة أو حقيبة يد، لمجرد أنها تحمل شعار ماركة مشهورة. ألا يعكس هذا السلوك حالة من الفراغ الروحي والقيمي في مجتمعاتنا المعاصرة، التي أصبحت تقيس قيمة الإنسان بما يملك وليس بما هو عليه؟
ماذا عن أصحاب الأموال الضخمة؟ كيف سيميزون أنفسهم في المجتمعات إن لم يدفعوا مبالغ ضخمة لمنتجات وخدمات يصعب على الفرد العادي الوصول إليها فقط لأنها مكلفة؟ الحقيقة المرة - وهي حقيقة نتجاهلها غالبا - أن هؤلاء الأثرياء يعانون من حالة نقصان نفسية يحاولون تعويضها بالتبذير والبذخ وشراء المنتجات التي قد لا يحتاجونها، ولكنهم سيكونون متميزين بها فقط لأن القليل سوف يحصلون عليها. هذا السلوك يعكس أزمة هوية عميقة، حيث يسعى هؤلاء إلى تعريف أنفسهم من خلال ما يستهلكونه، وليس من خلال إنجازاتهم أو قيمهم الإنسانية.
على الجانب الآخر، لا يقتصر هذا السلوك الاستهلاكي المفرط على الأثرياء فقط، فقد امتد كالنار في الهشيم ليشمل الطبقة المتوسطة أيضا، التي أصبحت تقترض وتتحمل الديون من أجل اقتناء منتجات فاخرة لا تتناسب مع قدراتها المالية، سعيا وراء مظهر اجتماعي زائف. لقد تحول هذا السلوك إلى ما يشبه وباء اجتماعيا، يهدد الاستقرار المالي للأفراد والأسر، ويعزز ثقافة الاستهلاك المفرط على حساب قيم الادخار والاستثمار.
ومما يثير الاهتمام ما تشير إليه الدراسات النفسية من أن الأفراد الذين يضعون قيمة عالية على الممتلكات المادية هم أكثر عرضة للمشاعر السلبية مثل الحسد وعدم الرضا، ولديهم مستويات أقل من الرضا عن الحياة. السعادة الحقيقية - وهذا ما نغفل عنه غالبا - لا تأتي من اقتناء المزيد من المنتجات الفاخرة، بل من العلاقات الإنسانية الحقيقية والإنجازات الشخصية والنمو الذاتي. كلما غرقنا أكثر في دوامة الاستهلاك، ازداد شعورنا بالفراغ والضياع، لأننا نسعى إلى إشباع حاجات روحية وعاطفية بوسائل مادية.
وهنا نصل إلى السؤال الأهم: هل نحن من نمتلك الأشياء، أم أن الأشياء هي التي تمتلكنا؟ وهل آن الأوان لأن نعيد تعريف معنى النجاح والتميز بعيدا عن ثقافة الاستهلاك المفرط التي أصبحت تحكم حياتنا؟
drsalemalketbi@
0 تعليق