أثار الرئيس الأميركي دونالد ترامب جدلاً واسعاً في مصر، مع دعوته إلى السماح لسفن بلاده الحربية والتجارية بالمرور بقناة السويس مجاناً دون دفع رسوم، ما عبّر عن تحرش أميركي بالسيادة المصرية لا يقل خطورة عن دعم مخططات تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة إلى الأراضي المصرية.
وكشفت مصادر عسكرية ودبلوماسية وسياسية لـ"عربي بوست" أن القاهرة لن ترد رسمياً، وأن الردود الشعبية الصاخبة تُعد بمثابة رد يمثل الدولة المصرية ومواطنيها ضد ما يمكن وصفه بـ"البلطجة الأميركية".
وأنه في حال أعادت أمريكا طلبها بشكل رسمي، فإن القاهرة ستعبّر عن رفضها القاطع لمثل هذا التوجه، فيما يمكن الذهاب إلى عودة بعض الامتيازات التي كانت تُقدَّم للولايات المتحدة في السابق، شريطة استقرار العلاقات بين البلدين بشكل كبير وعدم تعريض المصالح المصرية للخطر.
ودعا ترامب عبر منصة "تروث سوشيال" إلى السماح للسفن الأميركية، العسكرية والتجارية على حد سواء، بالمرور عبر قناتي بنما والسويس بحرية، وأكد تكليفه وزير خارجيته ماركو روبيو "التعامل مع الوضع على الفور"، زاعماً أن "هاتين القناتين ما كانتا لتوجدا لولا الولايات المتحدة الأميركية".
وتبع هذه التغريدة دعم مستشاره للأمن القومي مايك والتز، عبر تدوينة أعاد فيها تصريحات الرئيس الأميركي، وعلّق عليها قائلاً: "لا ينبغي لأميركا أن تدفع مقابل استخدام القناة التي نحميها".
وتوالت ردود الفعل المصرية عقب هذه التغريدات، والتي جاءت من كافة الأحزاب والقوى السياسية، بما فيها المعارضة، وكذلك البرلمان والعديد من الهيئات، وتوافق الجميع على رفض مثل هذه الدعوات وعدم التجاوب معها.
كلام جد قبل ان يتراجع #ترامب عن تصريحاته كالعاده :
١- لا دور لأمريكا على الإطلاق فى حفر او تشغيل او حماية #قناه_السويس
٢- من الواضح ان ترامب لا يعرف الفارق بين #قناة_السويس و #بنما
٣- الرسوم تفرض بقانون دولى رغم ان ترامب لا يحترم ذلك
٤- المساعدات التى تقدمها #امريكا لمصر لم… https://t.co/nlBISFShgq— Lamees elhadidi (@lameesh) April 26, 2025
ضغط على القاهرة لكي لا تكون شريكة في المشروع الصيني
قال مصدر عسكري مصري لـ"عربي بوست" إن حديث الرئيس الأميركي يأتي في إطار "البلطجة السياسية" التي تتماشى مع رغبته في تحقيق أكبر قدر من المكاسب السياسية والتجارية من دول منطقة الشرق الأوسط.
وأضاف أن ذلك يُعد سياسة عامة لترامب ذو الخلفية التجارية، والقاهرة لا يمكن أن ترضخ لمثل هذه الضغوط، وترى أنه من الأفضل تجاهلها وعدم منحها اهتماماً يُذكر، وأن طرح الفكرة على الدوائر الرسمية سيكون مصحوباً بموقف قوي ورافض لمثل هذه المطالب.
وأوضح أن المصالح الأميركية في مصر والمنطقة العربية تبقى أكبر من مجرد الحديث عن مرور السفن مجاناً عبر قناة السويس، وأن القاهرة لديها دوائر تأثير عديدة يمكن استخدامها حال أصرت الولايات المتحدة على مطالبها.
وأضاف أنه سيكون من الصعب الدخول في توترات سياسية في وقت تتمتع فيه قناة السويس بقوانين عمل مصرية ودولية أيضاً، وأن التوجه للسبل القانونية سيكون في صالح الدولة المصرية التي تلتزم بتنفيذ قوانين الممرات البحرية، ومن الصعب أن تكون هناك امتيازات مجانية لدولة على حساب دول أخرى صديقة أيضاً.
ولفت إلى أن الموقف الأميركي لديه أبعاد أكبر من مسألة مرور السفن مجاناً، ويرتبط برغبة أميركية في قطع الطريق على الصين التي تنفذ طريق الحرير، وتعد قناة السويس إحدى ممراته البحرية.
وقال إن ترامب يضغط لكي لا تكون القاهرة شريكة في المشروع الصيني، والذي يمكن أن يأتي بعوائد اقتصادية مهمة لمصر حال ساهم في تنشيط حركة الملاحة الراكدة بقناة السويس منذ اندلاع الحرب في قطاع غزة.
وأشار إلى أن ممارسة ضغوط تجارية على القاهرة لصالح الأهداف الأميركية في المنطقة لن يكون مجدياً، وأن الدولة المصرية تنفتح على التعاون مع القوى العظمى في العالم دون أن تنحاز بشكل مباشر لأي من الأطراف.
وشدّد على أن القاهرة ترى في حديث ترامب استخفافاً بقدرات الدولة المصرية، وبالتالي ليس من المتوقع أن تذهب في طريق الرد المباشر عليه، كما أن الدولة المصرية لديها من القدرات العسكرية ما يجعلها قادرة على حماية مصالحها في البحر الأحمر وقناة السويس دون الحاجة إلى مساعدة أميركية.
عسكرة البحر الأحمر ليست في صالح القاهرة
تُعتبر قناة السويس أقصر طريق يربط بين الشرق والغرب بالمقارنة مع رأس الرجاء الصالح، حيث إن طريق القناة يُقلل المسافة بين موانئ الشمال والجنوب، ويوفر الوقت واستهلاك الوقود وتكاليف تشغيل السفينة، وتربط البحر الأحمر بالبحر المتوسط، وتُعد أحد أهم مداخيل الاقتصاد المصري من العملة الأجنبية.
ويمر عبر قناة السويس نحو 10% من حجم التجارة العالمية، لكن ذلك تراجع منذ اندلاع الحرب في غزة نهاية عام 2023، وفقدت القناة قرابة 60% من العائدات المحققة في وقت كان يُعوّل فيه الاقتصاد المصري كثيراً على إيرادات قناة السويس لدعم الموارد الدولارية في ظل وجود التزامات دولية على مصر.
افتُتحت القناة عام 1869، لتُصبح شرياناً ملاحياً حيوياً يربط بين البحرين الأحمر والمتوسط، ويختصر المسافات البحرية بشكل كبير. وفي عام 1956، قام الرئيس الراحل جمال عبدالناصر بتأميمها، ما أدى إلى حرب العدوان الثلاثي في العام نفسه، التي شهدت تدخل قوى أجنبية في الشأن المصري، ومحاولة للسيطرة على هذا الممر الحيوي.
وقال مصدر دبلوماسي مصري إن الولايات المتحدة لا يحق لها الإقدام على مثل هذا الطلب، وأنها لم تكن شريكة في حفر القناة في وقت كانت الحرب الأهلية ما زالت مستمرة هناك، كما أن القاهرة لم تطلب منها حشد أسطولها البحري في البحر الأحمر لمواجهة الحوثيين في اليمن.
وقال إن التواجد الأميركي الحالي ليس في صالح القاهرة، التي ترفض مبدأ عسكرة البحر الأحمر، وترى أن الولايات المتحدة يمكن أن تلعب دوراً في الضغط على إسرائيل لوقف حرب غزة، ومن ثم توقف الهجمات الحوثية على السفن الإسرائيلية، ما يدعم عودة حركة الملاحة إلى سابق عهدها.
وأشار المصدر ذاته إلى أن الصراع الحالي بين الحوثيين والولايات المتحدة لا علاقة للقاهرة به، وأن ما يذهب إليه ترامب يهدف من خلاله إلى الضغط على القاهرة عبر عدة ملفات، بينها عرقلة التقارب المصري الصيني ووجود أوراق عديدة يمكن تحريكها في الوقت المناسب.
وذلك للضغط في ملف تهجير الفلسطينيين، إلى جانب تسهيل مهمة الولايات المتحدة نحو السيطرة على ممرات الملاحة البحرية، بحسب أهداف الإدارة الحالية، وهو ما يشي بأن الدعوة تأتي لتحريك بعض المياه قبل الجلوس على طاولة تفاوض مع القاهرة بشأن هذه الملفات.
ولفت إلى أنه من غير الممكن السماح بمرور السفن الأميركية مجاناً، رغم أن القاهرة سبق أن قدمت امتيازات للسفن الأميركية في العبور، سواء فيما يتعلق بسرعة المرور أو تقديم مزيد من الخدمات، ومن الممكن العودة إليها مرة أخرى شريطة أن يكون هناك تقارب كبير في الملفات المشتركة بين البلدين، وليس من الممكن أن تستمر الولايات المتحدة في دعم تهجير الفلسطينيين، ثم تقوم القاهرة بمنحها امتيازات تجارية.
وذكر أن القاهرة تتعامل مع تصريحات الرئيس الأميركي في إطار سياسي تجاري، إذ إن الإدارة الحالية تسعى إلى أن تحصل على نظير ما تُقدّمه لحلفائها من خدمات، وهناك رؤية أميركية بأن القاهرة لم تقم بدورها في التعامل مع خطر الحوثيين، وبالتالي قامت هي بالتعامل، في ظل رفض مصر المشاركة في عملية "حارس الازدهار" التي انطلقت قبل عامين تقريباً.
وأضاف أنه ليس مبرراً قبول مرور السفن مجاناً، كما أن مصر لم تطلب المساعدة، وهناك قناعة بأن إسرائيل هي من تسببت في عسكرة البحر الأحمر بإصرارها على استمرار الحرب.
وأكد أن تعاطي الإدارة الأميركية الحالية مع الملفات الخارجية فيه الكثير من القصور، وفي كثير من المرات يضطر الرئيس ترامب إلى التراجع عن سياساته، كما أن التواصل مع متخذي القرار يبقى فيه صعوبة.
وقال إن القرار الأخير مثلاً لم يصدر بشكل رسمي من المؤسسات الأميركية التقليدية التي لديها تواصل مباشر مع مصر في ملفات مختلفة، ويبقى الأمر مجرد رؤية للرئيس قد تكون قابلة للتطبيق أو غير قابلة، وهو ما يُفسّر الصمت الرسمي المصري.
تفكك العلاقات يعرض المصالح الأميركية للخطر
أعلن ترامب في منتصف الشهر الماضي، عن إطلاق عمل عسكري "حاسم وقوي" ضد الحوثيين، قائلاً: "سنستخدم القوة المميتة الساحقة حتى نحقق هدفنا"، متهماً الحوثيين بتهديد حركة الملاحة البحرية في البحر الأحمر.
وعلى مدى الأشهر الماضية، وحتى قبل توليه منصبه في 20 يناير/كانون الثاني الماضي، صعّد ترامب الضغط على بنما، متوعداً بـ"استعادة" القناة التي بنتها الولايات المتحدة وافتُتحت عام 1914، وظلت تحت السيادة الأميركية حتى عام 1999، وذلك في مواجهة ما اعتبره "نفوذاً صينياً متصاعداً في القناة"، وهو ما نفته الصين، لكن هذه المرة الأولى التي يتطرق فيها إلى قناة السويس.
وتُدار قناة السويس وفق نظام قانوني معترف به، يستند إلى اتفاقية القسطنطينية لعام 1888، واتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار لعام 1982، إضافة إلى قرار رئيس الجمهورية عام 1975، وجميعها تؤكد سيادة مصر على القناة.
ويشرح مصدر دبلوماسي متخصص في الشأن الأميركي أن القاهرة دائماً ما تتعامل مع الضغوط الأميركية بمزيد من التعاون والتنسيق، وليس الصدام المباشر، والدليل على ذلك أن النظام المصري واجه مطالب الرئيس الأميركي بتهجير الفلسطينيين بتقديم طرح سياسي مقابل يقوم على إعادة إعمار قطاع غزة، دون أن تصل الأمور إلى الصدام، بخاصة مع إقدام وزير الخارجية بدر عبدالعاطي على زيارة الولايات المتحدة أثناء سخونة الأزمة، وهو ما سيتم تكراره بالنسبة لمطالب المرور المجاني عبر قناة السويس.
وأكد وجود حرص مشترك من الجانبين على أن تكون العلاقات على مستوى استراتيجي كما هي الآن، وأن توازنات السلام في المنطقة قائمة على العلاقات المصرية الأميركية الإسرائيلية، وفي حال تفككها فإن المصالح الأميركية ستتعرض للخطر.
كما أن المنطقة ستدخل في موجات أكبر من الفوضى، ليس محلها الآن، في وقت تحاول فيه إدارة ترامب تحجيم الصين اقتصادياً، كما أن قبول القاهرة بما يذهب إليه ترامب يعني أن النظام المصري قد تنازل عن أحد أبرز إنجازات النظام الجمهوري، والذي يستمد منه الشرعية منذ إنهاء الاحتلال البريطاني والحصول على الاستقلال.
وذكر أن القاهرة تعي جيداً أن هناك أطماعاً أميركية غربية في قناة السويس، وبالتالي فهي تفوّت الفرصة على أي ذرائع يتم اتخاذها للتأثير سلباً على المجرى الملاحي العام، بل إنها تصل في ذلك إلى حد التنسيق مع الدول المتشاطئة على البحر الأحمر، لكي لا تترك منافذ يمكن أن توظفها الولايات المتحدة لعسكرة المنطقة لصالحها، وتضغط على السودان بشأن إقامة القاعدة الروسية على أراضيها.
وكذلك تعمل بشكل مستمر على تطوير القناة وتوسعتها، ويظهر ذلك منذ حادث سفينة الحاويات العملاقة "إيفر غيفن" التي علقت في القناة لمدة ستة أيام، وكان هناك ترجيحات غربية بعدم قدرة القاهرة على حل تعويمها قبل شهر على الأقل.
0 تعليق