في مشهد أثار العديد من التساؤلات والاتهامات، نشر دونالد ترامب صباح الأربعاء تغريدة على منصة "تروث سوشيال" قال فيها: "هذا وقت رائع للشراء DJT"، قبل ساعات فقط من قراره المفاجئ بتعليق الرسوم الجمركية على معظم دول العالم — باستثناء الصين. النتيجة؟ قفزة هائلة في الأسواق، أرباح خرافية لمن كان يعرف مسبقًا، ودوامة من الاتهامات والشكوك.
التسلسل الزمني الدقيق للقرارات والتصريحات، إلى جانب التقلّبات الهائلة التي شهدتها الأسواق خلال ساعات، فتح الباب أمام اتهامات جدية بالتلاعب بالسوق واستغلال المعلومات الداخلية. سياسيون أمريكيون طالبوا بتحقيقات، إذ يرون أن تلاعبًا لصالح الأثرياء والمقرّبين. ففتحت أبوابًا واسعة للتساؤل: من كان يعلم؟ وكم ربح؟ ولماذا الآن؟
ماذا حدث بالضبط؟ ولماذا هذا مهم؟
في الثاني من أبريل/نيسان، أعلن دونالد ترامب ما سماه "يوم التحرير"، وفرض رسومًا جمركية عقابية على معظم دول العالم. ولم تنتظر الأسواق طويلًا: فهبطت الأسهم العالمية، وسادت الفوضى في وول ستريت.
خلال اليومين التاليين، بين الانخفاض الحاد في مؤشري "ستاندرد آند بورز 500" و"داو جونز"، وهما من أهم المؤشرات التي تُستخدم لقياس أداء السوق الأمريكي ويُنظر إليهما كمقياس لصحة الاقتصاد ومزاج المستثمرين — تبخرت ثروة تُقدّر بـ11.1 تريليون دولار من سوق الأسهم الأمريكية، وكان هذا أحد أكبر الانخفاضات خلال يومين تشهده الولايات المتحدة في أكثر من 75 عامًا، وفقًا لمجلة "ذا نيشن" الأمريكية، التي قدرت هذه الخسارة بأنها أكثر من 35 ألف دولار للفرد الواحد في البلاد. وفي مختلف أنحاء العالم، حدث انهيار مماثل للثروات، مما أدى إلى خفض قيم حسابات التقاعد وخطط الادخار التعليمي.
رغم ذلك، تحدث ترامب بلهجة حازمة، داعيًا المستثمرين إلى عدم الذعر، ووعد بنتائج مبهرة على نحوٍ غير متوقع لحروبه الجمركية. واستمر في حديثه الحازم حتى يوم الأربعاء، عندما بدأت أسواق السندات، التي تُسهّل الاقتراض الأمريكي، بالانهيار، وتسارع انخفاض قيمة الدولار، لدرجة أن وزير وزير الخزانة وآخرون أخبروا الرئيس ترامب أن النظام المالي العالمي ربما هو على وشك الانهيار!
لكن في تمام الساعة 1:18 ظهرًا بتوقيت شرق الولايات المتحدة، ظهر ترامب ليعلن على منصة "تروث سوشيال" تعليق الرسوم الجمركية الإضافية بشكل مؤقت لمدة 90 يومًا — باستثناء الصين، التي رفع الرسوم عليها إلى 125%، ثم عدل الرقم في اليوم التالي إلى 145%.
فالتقطت أسواق الأسهم أنفاسها، وارتفعت بشكل مفاجئ وحاد بعد ظهر ذلك اليوم. وعاد كبار المستثمرين والأثرياء إلى السوق، وقفز مؤشر "داو جونز" نحو 3000 نقطة في ساعات معدودة — مكاسب هائلة لكنها قصيرة، إذ كان مكسبًا استمر لأقل من يوم واحد. فحقق الكثير من الأفراد والمؤسسات، ممن يعرفون متى يشترون ومتى يبيعون، أرباحًا طائلة في ظرف ساعات يوم الأربعاء، حيث اشتروا بسعر منخفض وباعوا بسعر مرتفع بعد ظهر ذلك اليوم، بينما كان الوضع لا يزال جيدًا.
وهنا بدأت الشكوك تتصاعد، إذ بدا الأمر مريباً على نحو ما، فقبل ساعات فقط من تعليقه المؤقت للرسوم، نشر ترامب تغريدة قال فيها: "هذا وقت رائع للشراء! دي جي تي!"
فصرحت السيناتور إليزابيث وارن: "يجب أن يعرف الأمريكيون ما إذا كان الرئيس ترامب أو أي شخص في إدارته قد تلاعب بالسوق لصالح مانحيهم".
بينما كتب السيناتور الديمقراطي كريس مورفي أيضًا على موقع X أن "فضيحة تداول معلومات داخلية تلوح في الأفق.. تغريدة ترامب الساعة 9:30 صباحًا توضح أنه كان حريصًا على أن يجني أتباعه المال من المعلومات الخاصة التي لا يعرفها إلا هو. فمن كان يعلم مسبقًا، وكم ربحوا؟"
بينما دعت النائبة الديمقراطية عن نيويورك، ألكسندريا أوكاسيو كورتيز، جميع أعضاء الكونغرس إلى الكشف عن أي أسهم اشتروها خلال الأربع والعشرين ساعة الماضية. وكتبت على موقع X: "سمعتُ أحاديث مثيرة للاهتمام في الكونغرس. الموعد النهائي للإفصاح هو 15 مايو. سنكتشف بعض الأمور قريبًا. حان الوقت لحظر التداول الداخلي في الكونغرس".
Any member of Congress who purchased stocks in the last 48 hours should probably disclose that now.
I've been hearing some interesting chatter on the floor.
Disclosure deadline is May 15th. We're about to learn a few things.
It's time to ban insider trading in Congress. https://t.co/YBKMGbraAu— Alexandria Ocasio-Cortez (@AOC) April 10, 2025
هل كان تلاعب لصالح الأصدقاء الأثرياء أم رضوخ لغضب الحلفاء؟
بحسب ما نشرته صحيفة الجارديان البريطانية، نادرًا ما يوقّع دونالد ترامب منشوراته بأحرف اسمه الأولى "DJT". لكن ما أثار الانتباه هو عندما سألت قناة "سي إن بي سي" وزير التجارة الأمريكي عن قدرة الرئيس العجيبة على توقيت السوق. فأجاب هوارد لوتنيك: "أراهن دائمًا على دونالد ترامب". وحين سُئل عن هذه التفاصيل، ادعى وزير التجارة أن ترامب يستخدم الأحرف الأولى من اسمه لتسمية نفسه كمرسل لجميع الرسائل النصية التي يتلقاها لوتنيك من رئيسه.
لكن ما يلفت النظر أكثر، أن هذه الأحرف هي نفسها التي يستخدمها سهم مجموعة ترامب للإعلام والتكنولوجيا Trump Media and Technology Group، الشركة التي تسيطر على منصة "تروث سوشيال"، والتي في مفارقة يصعب تجاهلها، قفز سهمها بأكثر من 22% عصر الأربعاء، محققًا لعائلة ترامب — التي يمتلك فيها الرئيس 53% والتي يحتفظ بها ابنه الأكبر في عهدته — تجني مكاسب تقدر بمئات الملايين من الدولارات في ساعات.
في اليوم ذاته، شهدت أسهم شركة تسلا، ومعها مشاريع إيلون ماسك الأخرى، ارتفاعًا ملحوظًا. فقفز صافي ثروة ماسك فجأة بمقدار 36 مليار دولار، بعد خسارة ثقيلة قدرها 31 مليار دولار بسبب التعريفات الجمركية التي أثرت سلبًا على أداء تسلا نهاية الأسبوع الماضي.
يزعم كبار الديمقراطيين في الكونغرس أن حلفاء الرئيس دونالد ترامب ربما يستفيدون بشكل غير قانوني من سياساته المتهورة في فرض الرسوم الجمركية. فبفضل التقلبات، كان بإمكان أي شخص لديه معرفة مسبقة بخطط الإدارة تحقيق ربح كبير في السوق. والآن، يتساءل الديمقراطيون عما إذا كان أقرانهم الجمهوريون قد فعلوا ذلك.
في صباح الأربعاء، نشر البيت الأبيض مقطع فيديو قصيرًا، ظهر فيه الرئيس ترامب وهو يخاطب تشارلز شواب، مؤسس شركة الوساطة المالية الشهيرة، مُهنئًا إياه بتحقيقه 2.5 مليار دولار في يوم واحد. مشهدٌ عابر أثار تكهّنات واسعة حول ما يمكن للمقرّبين من المكتب البيضاوي اكتسابه من معلومات داخلية قد تعطيهم الأفضلية.
" frameborder="0">
لكن الصورة من زاوية أخرى ربما تبدو مختلفة، حيث رأت مجلة "جاكوبين" الأمريكية المشهد كجزء من غضب حلفاء ترامب الأثرياء عليه، إذ باتوا في حالة تمرّد علني لرفضهم لسياساته الجمركية التي تهدّد ثرواتهم.
جيمي ديمون، الرئيس التنفيذي لبنك "جي بي مورغان تشيس"، الذي كان في البداية هادئًا في انتقاداته، تحوّل موقفه فجأة إلى التحذير بوضوح في رسالته السنوية للمساهمين من أن الرسوم الجمركية ستعرقل نمو الاقتصاد. لم يكن ديمون وحده، فقد زعم لاري فينك، الرئيس التنفيذي لشركة "بلاك روك"، أن غالبية مديري الشركات الذين تحدث معهم يرون أمريكا في حالة ركود بالفعل. حتى إيلون ماسك، رغم أنه من أبرز مؤيدي ترامب ومستشاريه، عبر علنًا عن معارضته للرسوم الجمركية، إذ شنّ ماسك هجومًا لاذعًا على مستشار التجارة في البيت الأبيض، بيتر نافارو، ساخرًا من شهادته الأكاديمية من جامعة هارفارد قائلاً إنها "أمر سيئ، لا جيد". وفي فعالية سياسية أُقيمت في إيطاليا، دعا ماسك صراحة إلى إنهاء التعريفات الجمركية وتوقع مستقبلاً منفتحًا للتجارة الحرة بين أوروبا وأمريكا. وتردد أنه طالب ترامب بشكل مباشر بالتراجع عنها. ترامب نفسه اعترف بحجم الضغوط، قائلاً إن الناس "كانوا يتجاوزون الحدود. كانوا ينتفضون… خائفين بعض الشيء".
ومع تصاعد حدّة المعارضة، لجأ الملياردير بيل أكمان إلى وسائل التواصل الاجتماعي لتحذير بشكل صارخ من أن سياسة ترامب قد تدفع بالاقتصاد الأمريكي نحو "شتاء اقتصادي نووي مفتعل". من جانبه، هاجم كين غريفين، مؤسس شركة "سيتاديل"، السياسات الجمركية واصفًا إياها بـ"الخطأ السياسي الفادح"، وحثّ على الضغط لإلغائها. كذلك شنّ كين فيشر، رئيس مجلس إدارة "فيشر للاستثمارات"، هجومًا لاذعًا على التعريفات، معتبرًا إياها "غبية، خاطئة، متطرفة بشكل متغطرس" و"جاهلة تجاريًا".
ودعا ريتشارد برانسون، مؤسس مجموعة "فيرجن"، الإدارة الأمريكية إلى الاعتراف "بالخطأ الجسيم" وتغيير المسار فورًا. بينما عبّر كين لانغون، المؤسس المشارك لشركة "هوم ديبوت"، عن انزعاجه قائلًا: "لا أفهم هذه الصيغة اللعينة". بينما لجأ المليارديران المحافظان تشارلز كوخ وليونارد ليو إلى القضاء في دعوى يطعنان فيها بسلطة ترامب في فرض رسوم جمركية على الصين. وكان خلف التصريحات العلنية، سلسلة من الاتصالات الهاتفية بين قادة الأعمال والبيت الأبيض.
هل تلقى ترامب درساً من أصدقائه الأثرياء؟
ترى الكاتبة الأمريكية ميغان داي أن ترامب، الملياردير الذي ملأ حكومته برجال من طبقته، خاض دون أن يدري ما يشبه دورة تدريبية قاسية في فهم من يملك حقًا مفاتيح السلطة. لقد تجرأ على الاقتراب من الخط الأحمر الوحيد: مصالح طبقته.

وتستشهد بأستاذ العلوم السياسية والاقتصادية الأمريكي، تشارلز إي ليندبلوم، في مقالته الأكاديمية "السوق كسجن"، التي يصف فيها الرأسمالية كنظام "ذكي" مزود بآلية عقاب تلقائية حيث "يأتي العقاب من الفعل ذاته الذي يهدف إلى تغيير النظام.
بمعنى أن أي محاولة جادة لتقليص أرباح رأس المال تُقابل بانسحاب استثماري جماعي، يجرّ الاقتصاد إلى الركود. فعندها تُقرر الشركات جماعيًا وقف الاستثمارات أو تقليصها، وترتفع البطالة، ويتجمد الائتمان، وينخفض الاستهلاك، وتنخفض عائدات الضرائب، وينهار كل شيء. هذا "التراجع التلقائي المُعاقب" هو جزء من ما يجعل الرأسمالية مُستدامة على الرغم من عيوبها الصارخة العديدة، ويجعل الحكومات تفكر مرتين قبل المساس بمصالح السوق.
وعندما يحدث هذا النوع من العقاب – كما حدث على مر التاريخ الحديث، من فرنسا إلى اليونان إلى تشيلي – يُطلق عليه اسم "إضراب رأسمالي".
ولذلك، ترى ميغان أن ترامب، من حيث لا يدري، وجد نفسه في موقع نادر: رئيس يميني يعيد، وإن عن غير قصد، تمثيل مشهد مألوف في أدبيات اليسار — رئيس يحاول تقييد حركة رأس المال. لكن رأس المال لا يصوّت ولا يساوم، بل ينسحب بصمت ويعاقب. هو غير حزبي، ولا ولاء له سوى للأرباح. وعندما هددته تعريفات ترامب، بدأ يرد بطريقته الخاصة.
وتطرح تساؤلًا وتجاوب عليه: هل كان بإمكان ترامب الصمود؟ نظريًا، ربما — لو كانت لديه حركة عمالية منظمة تدعمه، ومجموعة من ضوابط رأس المال للحد من قدرة الرأسماليين على سحب استثماراتهم. لذلك ترى ميغان داي، أنه رغم كل تهديداته، واعتقاده بأن "الرسوم الجمركية هي أجمل كلمة في قاموسه"، ورغم ثروته التي تفوق المليارات، وجد ترامب نفسه في موقف لم تجد الحكومات نفسها فيه عبر التاريخ: مُجبرة على الرضوخ لنزوات السوق.
0 تعليق